التاريخ: السبت, 20-أبريل-2024 الساعة: 12:30 ص
بانـورامـــــــا
شبكة أخبار الجنوب - البن اليمني

الثلاثاء, 04-يناير-2011
شبكة اخبار الجنوب - تحقيق - علي التوهمي -

أثر ازدهار تجارة البن اليمني خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين تأثيرا إيجابيا، ليس على الوضع الاقتصادي في اليمن فحسب، ولكن أيضا على معظم المناطق والبلدان والشركات التي عملت في تجارته، فقد حققت تجارته أرباحا عالية للعديد من المناطق الواقعة على حوض المحيط الهندي والبحرين الأحمر والمتوسط، فإذا كان اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح قد حرم تلك المناطق من عائدات تجارة التوابل فإن تجارة البن قد أعادت النشاط التجاري إلى سواحلها وموانئها. وقد استطاع البن أن يحقق شهرة عالمية في وقت قياسي. كما استمر في الحفاظ على موقعه المتميز بين السلع العالمية لمدة طويلة من الزمن، بالرغم من وجود العديد من الصعوبات التي اعترضت طريقه، وذلك بسبب جودته العالية ونكهته المتميزة.


كتاب "تجارة البن اليمني" للباحثة أروى الخطابي، والتي نالت بموجبه رسالة الماجستير من كلية الآداب جامعة صنعاء، يرصد خلال ثلاثة قرون (ق17-ق19) ظهور البن في اليمن، والجدل الذي ساد حوله من حيث تحليله أو تحريمه.


الكتاب الذي يقع في 222 صفحة، يحتوي على أربعة فصول؛ الأول: ظهور البن اليمني، والثاني: التجارة الداخلية للبن اليمني، والثالث: يتحدث عن الدور العربي والإسلامي في تجارة البن اليمني، والفصل الرابع والأخير: ترصد دور أوربا وأميركا في تجارة البن اليمني.


ويعد الكتاب بمثابة رسالة قوية لصناع القرار في اليمن مفادها أن المورد الأول للدولة على مر العصور مكمنه "الزراعة" والعامل المساعد لها "الميناء"/الطريق.


ظهور البن:
حاولت الباحثة من خلال الفصل الأول، تغطية العديد من الجوانب مثل التطور اللغوي لكلمات البن والقهوة ومشتقاتها، وبداية ظهور البن في اليمن، وأصل شجرة البن والجدل الذي حدث حول شراب القهوة سواء بين علماء الدين أو رجال السياسة، إلى جانب دراسة العوامل الطبيعية والبشرية التي أثرت في زراعة البن، كما تم البحث في أصناف ومناطق زراعته، وأخيرا تم التطرق إلى علاقة البن بالحياة الفكرية والأدبية.


تقول الباحثة: "إن البن حل -من حيث الأهمية الاقتصادية- محل اللبان والبخور في العصر القديم، و"الفوه" -جذور نبات يحضر منها صباغ أحمر يستعمل لصبغ المنسوجات- في العصر الإسلامي، مشيرة إلى أنه بحلول بداية القرن السابع عشر بدأت تجارة سلعة "الفوط في الانكماش، مقابل ازدهار تجارة البن".
وتؤكد أن جميع المراجع التاريخية تتفق بأن بداية استعمال شراب البن الذي اصطلح على تسميته بالقهوة ترجع إلى أحد علماء الدين من شيوخ الصوفية في اليمن، الذين استعملوه في أغراضهم الدينية، موضحة أن غرض الشيوخ من شرب القهوة هو التعبد، فمن المرجح أن يكون البن في متناول أيديهم، أو على الأقل قريبا منهم ولا يكلفهم مشقة الحصول عليه.


وفيما تشير الباحثة إلى أنه من الصعوبة بمكان تحديد تاريخ دقيق لبداية ظهور البن في اليمن، إلا أن المؤرخين وكتاب التراجم حاولوا تحديد تاريخ تقريبي لبداية ظهوره في اليمن.


وفي هذا الصدد تقول: "بالرغم من اختلاف المؤرخين في تحديد الشخص الذي عزي إليه الاستخدام الأول للقهوة، إلا أنهم اتفقوا على أنه من شيوخ الصوفية. ونسب اكتشاف البن واستعمال القهوة إلى ثلاثة من شيوخ الصوفية هم الشيخ علي بن عمر الشاذلي (توفي عام 1418م) ـ والذي أجمع المؤرخون على أنه المكتشف الأول للبن في اليمن ـ والشيخ محمد بن سعيد الذبحاني والشيخ ابو بكر عبدالله العيدروس.


والمؤكد في هذا الجانب ـ بحسب الباحثة ـ أنه ورغم الارتباك الذي وقع فيه المؤرخون حول تحديد بداية ظهور البن في اليمن، إلا أن اكثر الروايات ترجيحا هي الرواية التي ترجع بداية ظهور البن في اليمن الى الفترة الواقعة بين نهاية القرن الثامن وبداية القرن التاسع الهجري، الموافق نهاية القرن الرابع عشر وبداية القرن الخامس عشر الميلادي، مرجعة ذلك إلى أن تلك الفترة شهدت بداية الجدل الحاد بين علماء الدين حول تحديد مدى شرعية شراب البن.


حلال أم حرام؟
أدى ظهور البن/القهوة في اليمن إلى حدوث جدل كبير بين العلماء حول مدى شرعية ذلك الشراب هل هو حلال أم حرام؟، وقد نتج عن هذا الجدل انقسامهم إلى فريقين؛ الأول مؤيد والآخر معارض لها.


وتقول الباحثة في هذا الصدد إن بداية حركة معارضة شرب القهوة بدأت في مكة المكرمة بإصدار الأمير خايربك المعمار ناظر الحسبة في مكة أمرا بمنع شرب القهوة هناك، وقد أورد ذكر أن الأمير، بعد أن مر في ذات ليلة بمجموعة من الناس وهم مجتمعون في الحرم الشريف لأداء بعض الشعائر الدينية، وكانوا يتعاطون شرابا غير معلوم لديه، وعندما سأل عن ذلك الشراب قيل له شراب قد اتخذ في هذا الزمان سميت القهوة، ويقال له البن وإنه قد فشا أمره بمكة وكثر وصار يباع في أماكن على هيئة الخمارات ويجتمع عليه بعض الناس من رجال ونساء بدف ورباب وغير ذلك مما هو ممنوع في الشريعة المطهرة، وما إن سمع بذلك حتى أصدر أمرا بمنعه.


وتشير الباحثة إلى أن الجدل الذي حدث بين علماء الدين حول شراب القهوة لم يقتصر على مكة المكرمة وحدها، ولكنه شمل معظم المناطق العربية والإسلامية في مصر وبلاد الشام والقسطنطينية، بل وحتى في اليمن ذاتها، كما وصل إلى مناطق أخرى في أوربا، حيث وصل إلى البوسنة، واستمر الجدل بين علماء لمدة قرنين من الزمان، كما لم يقتصر الجدل على مذهب من المذاهب الإسلامية، فقد شمل المذهب المالكي والشافعي والحنبلي وغيرهما.


وتوضح الباحثة أن الأسباب التي جعلت بعض علماء الدين يحرمون شراب القهوة، تعددت، ومن تلك طريقة صياغة الأسئلة التي كان يبعثها بعض الناس إلى علماء الدين من أجل إفتائهم حول شراب القهوة، فقد كانت تلك الأسئلة ترد في صيغ توحي بأن القهوة شراب مسكر أو مخدر مما كان يستوجب على علماء الدين الإفتاء بتحريمه، أما السبب الآخر الذي دفع علماء الدين إلى تحريم القهوة هو أماكن شرب القهوة (أي المقاهي)، حيث كان يحدث في تلك الأماكن اختلاط الرجال والنساء، وما صاحب ذلك من تدخين التبغ، والاستماع للموسيقى والطرب، إلى جانب ممارسة بعض الألعاب المحرمة، كالقمار أو اللعب بالرهن كل تلك الأسباب دفعت العلماء إلى إصدار فتاواهم ضد القهوة.


أما العلماء الذين أفتوا بتحليل القهوة -بحسب الباحثة- فقد أخضعوها إلى التجربة العملية لإثبات عكس ما قيل عنها، ويعد قاضي مصر محمد بن إلياس الحنفي من أشهر الذين أخضعوا القهوة للتجربة العملية، حيث قام بطلب كمية من القهوة/البن وغليها وسقيه جماعات بحضرته، وجلس يتحدث معهم معظم النهار ليختبر حالهم فلم ير منهم تغيرا ولا شيئا منكرا فأقرها على حالها.


لكن المنع - بحسب الباحثة- لم يستمر طويلا وذلك أن السلطان المملوكي قانصوه الغوري والي مصر أرسل مرسوما نهى فيه عن الاجتماع في المقاهي ولكنه لا يحرم القهوة ذاتها فتجاسر الناس على شربها لا سيما وقد بلغهم أنها لم تمنع من مصر التي هي بلدة السلطان ولم ينكرها احد من العلماء إذ ذاك.


وتقول الباحثة إنه بالرغم من المعارضة التي شهدتها القهوة في بداية ظهورها إلا أنها تجاوزت كل تلك المعوقات وانتشرت بسرعة كبيرة ومما زاد في انتشارها بسرعة هي حركة المعارضة ذاتها.


حياة فكرية:
ورافق ظهور البن/القهوة في اليمن، حسبما تشير الباحثة، ظهور حركة فكرية وأدبية كبيرة وازدهرت على المستويين العربي والعالمي في كافة فروع الأدب وأفكر، فقد ازدهر الشعر والقصة والموسيقى وغيرها، ولما كان الشعر هو ديوان العرف كانت القهوة حاضرة في أشعارهم ولم يقتصر تمجيد الشعراء للقهوة على منطقة دون غيرها فحب الشعراء للقهوة قد أثار قرائحهم فانبروا يتغنون ويتغزلون بها سواء من اليمنيين أو من غيرهم.


ومع أول ظهور للبن/القهوة والتي كانت يشربها الشيوخ الصوفيون، لتعينهم على قيام الليل والعبادة، فقد ظهرت العديد من القصائد الصوفية التي مجدت القهوة، وهذه قصيدة نسبت إلى الشيخ الصوفي علي بن عمر الشاذلي وهو الذي نسب إليه بداية استعمال القهوة في اليمن، حيث قال:
قهوة البن يا أهل الغرام
ساعدتني على طرد المنام
وأعانتني بعون الله على
طاعة الله والناس نيام
قافها القوة والهاء الهدى
واوها الود والهاء الهيام
لا تلوموني على شربي لها
إنها شراب ساداتي الكرام


وعندما أفتى الشيخ أحمد بن عبدالحق السنباطي بتحريم القهوة رد عليه احد الشعراء معارضا بقوله:
إن قوما تعدوا
والبلاد منهم تأتى
حرموا القهوة عمدا
ورووا إفكا وبهتا
أن سألت النص قالوا
أين ابن عبدالحق أفتى
يا أولي الفضل اشربوها
واتركوا ماقال بهتا
ودع العذال فيها
يضربون الماء حتى..


التجارة الداخلية للبن:
وبعد أن صارت القهوة شرابا شائعا بين أوساط المجتمع اليمني، تحول البن إلى سلعة تجارية وما من شك بأن هذه السلعة كانت في البداية محلية، طرحت في الأسواق للتبادل التجاري.


وفي هذا الصدد تقول الباحثة: "لكن للأسف الشديد فإن المصادر اليمنية التي تمكنت من العثور عليها، والتي تعود إلى فترة قريبة من اكتشاف البن تكاد تخلو من أي ذكر للبن كسلعة تجارية متداول محليا، إلا انه لا يستبعد أن يكون هناك تبادلا تجاريا محدودا في هذا المجال".
وتضيف: "وشكلت عملية إعداد البن وتجهيزه من أجل تصديره إلى الخارج جزءا لا يتجزأ من النشاط التجاري الداخلي لليمن، وقد مرت عمليات الإعداد تلك بالعديد من المراحل المتنوعة، شكلت كل مرحلة منها نشاطات تجاريا له خصوصيته".


ولفتت الباحثة إلى أن بعض الأسواق تخصصت بعمليات التبادل التجاري المتصل بالبن، ومن تلك الأسواق سوق بيت الفقيه بالحديدة، وسوق الصلبة بحجة، وسوق الحدية بريمة، وسوق عُلُوَجة بريمة أيضا، كما وجد البن في الأسواق العامة، خاصة الأسواق التي كانت تعقد في الموانئ مثل موانئ المخاء وعدن والحديدة واللحية وغيرها. إلى جانب ذلك وجد البن في بعض الأسواق الثانوية، حيث كان يتم تبادل البن فيها على نطاق ضيق وذلك لأن الاستهلاك المحلي كان محدودا.


وبالرغم من تعدد الموانئ إلا أن ميناء المخاء كان الميناء الأبرز في تصدير البن الأمر الذي جعل بن اليمن يسمى باسمه ويأخذ شهرته العالمية -(موكا كافي) بن المخا- كما قام الأئمة الذين حكموا اليمن وكذا الحكام العثمانيون باستغلاله لصالحهم وأسرهم بالاستفادة من مردودات مبيعات البن في تعزيز نفوذهم بتسليح الجيش وشراء الولاءات.


وإلى جانب تلك الموانئ اليمنية كانت توجد موانئ أقل أهمية في تجارة البن ومنها ميناء جيزان، والذي كان يصدر منه البن الآتي من بلاد حاشد وبكيل، إلى جدة ثم السويس ومنها إلى القاهرة، كما وجدت بعض الموانئ أقل شهرة من الموانئ السابقة، قد ساهمت في نقل البن من منطقة إلى أخرى داخل اليمن نفسه، مثل ميناء شقرة، حيث كان يتم شراء الجزء الأكبر من البن اليافعي من اجل بيعه في حضرموت).


تجار البن:
تعددت الفئات التي عملت في تجارة البن، فقد تاجر به أناس مثلوا كافة الفئات الاجتماعية التي عاشت في اليمن، فقد عمل فيها الحكام سواء من العثمانيين أم اليمنيين أم العرب، كما يوجد العديد من التجار العاديين الذين كانت تندرج مراتبهم من صغار التجار ممثلين بصغار المزارعين الذين كانوا يقومون بنقل محاصيلهم المحدودة من البن إلى الأسواق إلى كبار التجار.


إلا أن المراجع التاريخية -تقول الباحثة- تؤكد أن الهنود والذين سموا في تلك الفترة بـ"البانيان" كانوا منتشرين بكثرة في الأسواق التي تباع فيها البهارات والبن، وقد تمكنوا من كسب ثقة اليمنيين سواء الحكام أم المواطنين بمن فيهم التجار وذلك ما اشتهروا به من أمانة وصدق في المعاملة، ونجحوا في الاتصال بالأئمة وكونوا معهم علاقات وطيدة.


ثروات هائلة:
وتشير الباحثة إلى أن الولاة العثمانيين استطاعوا من خلال تجارتهم بالبن تكوين ثروات ضخمة ولعل أشهرهم ـ حسب الباحثة ـ فضل الله باشا المشهور بـ"فضلي باشا" (ت 1624)، والذي قال عنه التجار الهولنديون الذين جاؤوا إلى اليمن في بداية القرن السابع عشر في تقرير رفعوه إلى شركة الهند الشرقية "أنه جاء الباشا إلى اليمن فقيرا وغادرها ثريا"، وبعد أن آلت السلطة للأئمة من آل القاسم، شارك بعض أفراد العائلة الحاكمة في تجارة البن، كما شاركوا في زراعته بشكل كبير حتى قيل أنه عند موت الإمام الحسن بن الإمام القاسم كان المثمر من أشجار البن التي تعود ملكيتها له نحو مائة ألف غرسة".


البن محصول نقدي:
بعد فترة ظهوره، اعتبر البن واحدا من المحاصيل التي يجب دفع الزكاة عنها من قبل المواطنين، وكذا دفع الضرائب من قبل التجار الذين يعملون في التجارة الداخلية، والجمارك من التجار الأجانب الذين ينقلون البن من اليمن.


واتبعت السلطات المتعاقبة التي حكمت اليمن سواء العثمانية أم اليمنية طريقة محددة لجمع الأموال من زكاة البن تمثلت فيما كان يعرف بطريقة التثمير أو الخرص أو الطيافة أو الكشف.


وتقول الباحثة: "لا يعرف بالتحديد المبالغ المالية التي كانت زكاة البن ترفد خزينة الدولة بها، ولكن إذا نظرنا إلى حجم الأراضي المزروعة بالبن والتي كادت تغطي جميع الأراضي الصالحة لزراعته فمن الممكن استنتاج أن زكاة البن كانت ضخمة، وأنها شكلت مصدرا هاما من مصادر دخل البلاد خاصة في الفترات التي كانت تجود فيها زراعته، كالعدين وكسمة، والجبين".


انعكاسات حضارية:
يوضح الكتاب أن البن تمتع بأهمية قصوى؛ إذ كان محلا للسيطرة والاستحواذ في كثير من الفترات التي كانت تسودها الاضطرابات السياسية ويكثر فيها عدد القوى المتصارعة.


وتقول الباحثة في هذا الصدد إن عائدات البن كانت تستخدم من قبل الولاة العثمانيين الذين حكموا اليمن أو من قبل الأئمة في تعزيز نفوذ حكمهم وشراء الولاءات وتسليح الجيوش، والقضاء على المعارضين.
وتضيف: "إن البن قد دعم ميزانية الدولة والتي استخدمت تلك الأموال في تكوين جيش كبير وقوي، مكنها من فرض سيطرتها على جميع المناطق اليمنية، مكونا بذلك أول دولة يمنية موحدة تحت راية إمام واحد، هو الإمام المتوكل على الله إسماعيل، الأمر الذي ساعد هذا الإمام على إقامة علاقات سياسية وطيدة مع بلدان كثيرة، منها الهند والحبشة وغيرهما".


وتؤكد الباحثة أن عملية توحيد اليمن هي من أهم النتائج السياسية التي ترتبت على وجود اقتصاد قوي ناتج عن توفر كميات كبيرة من النقود، حصلت عليها اليمن من زراعة وتجارة البن بدرجة أساسية، لكن لم يستمر اليمن طويلا في طور القوة والمجد، فقد شهدت المرحلة الأخيرة من حكم الإمام المتوكل على الله إسماعيل بداية تدهور اليمن، وانكماش أراضيها بسبب ضعف صحة الإمام، وكثرة عدد الأشخاص الذين يهيئون أنفسهم لتولي الإمامة بعده، كما كان لازدهار تجارة البن وتجارته تأثير بارز على الجانب الاقتصادي في اليمن".


وتقول الباحثة: "إذا كان اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح وتحول طرق التجارة الدولية اليه، قد أفقد اليمن الكثير من مواردها المالية والتي كانت تحصل عليها بالدرجة الأساس من تجارة العبور للسلع الشرقية وأهمها التوابل إلى موانئ مصر والشام، ومنها إلى موانئ أوربا، فإن انتشار قهوة البن في العامل وزيادة الطلب عليه حول البن إلى سلعة بديلة عن التوابل التي تحولت تجارتها إلى الطريق الجديد، وأصبح اليمن قبلة لكثير من السفن التي جاءت لشرائه، وليس ذلك فحسب ولكن أيضا شكلت تجارة البن أداة لإعادة النشاط التجاري إلى شبكة الموانئ التجارية المطلة على المحيط الهندي والبحر الأحمر".


أما من الناحية الحضارية والإنشائية فقالت المؤلفة إن تجارة البن ساهمت في جزء لا بأس به في هذا المجال، فقد استخدم جزء من عائدات البن في إنشاء المدن وتحصينها وبناء الحصون والقلاع وترميمها".


إلا أن الباحثة تستدرك حديثها بالقول: "إن الفائدة الكبرى من زراعة البن وتجارته كانت عائدة على الأئمة، وبعض الشخصيات القريبة منهم بدرجة أساسية، أما المواطنون العاديون والبسطاء من الناس، مثل صغار المزارعين والتجار، فكانت استفادتهم محدودة إلى حد ما".


دور عربي وإسلامي:
في الفصل الثالث من الكتاب، تتحدث الباحثة عن الدور العربي والإسلامي في تجارة البن، وتشير إلى أن دور مصر كان الأبرز في التعريف بـ"البن" اليمني، ويأتي بعدها بلاد الشام، والحجاز والمغاربة وعمان والبصرة، وتجار الإحساء والأتراك العثمانيين، وفارس والهند وإفريقيا التي قامت بزراعة البن خاصة في المناطق التي تجود بزراعته، واحتكر الأمراء في إفريقيا زراعة البن ولم يأذنوا لأحد بزراعته لزعمهم أن الناس بذلك يغتنون ويخرجون عن "الطاعة".


ويشير الكتاب إلى أن البن وصل إلى مصر مبكرا منذ فترة ظهوره في اليمن، وكان وصوله إلى هناك عن طريق اليمنيين، حيث كانت القهوة المستخلصة من البن تشرب في نفس الجامع الأزهر برواق اليمن. وتمكنت مصر من الاستفادة من هذه السلعة بسرعة كبيرة، وقامت بنقل حبوب البن التي يستخلص منها شراب القهوة من مناطق الإنتاج في اليمن إلى مناطق الاستهلاك في الدولة العثمانية وإفريقيا وأوربا، ما جعل مصر حلقة وصل بين أراضي الإنتاج والاستهلاك.


كما لم يكن الدور الذي لعبته بلاد الشام بأقل أهمية من الدور المصري في تجارة البن، وقد وصل البن إلى بلاد الشام في البداية بنفس الطريقة التي وصل بها إلى مصر أيضا، وهو عن طريق الحجاج، وقوافل الحج العائدة إلى بلادها، وتمكنت القهوة من فرض نفسها بسرعة في بلاد الشام ما أدى إلى تحولها إلى سلعة تجارية مهمة كانت تصل إلى بلاد الشام من منافذ متعددة إما عن طريق مصر أو الحجاز أو العراق وأحيانا من اليمن مباشرة، ولعب ميناء غزة دورا فعالا في تجارة البن بين مصر والشام.


أوربا وأميركا.. وبن اليمن:
في الفصل الرابع والأخير توضح الباحثة الدور الأوربي والأميركي في تجارة البن، مشيرة إلى أن وصول الانجليز والهولنديين إلى اليمن كان في بداية القرن السابع عشر، ويأتي في إطار البحث عن أسواق يمكن فيها تصريف بعض البضائع الهندية، والحصول على أموال أو بضائع يمنية يمكن بيعها في الموانئ الهندية والفارسية في عملية أشبه ما تكون دائرية، فيما كان تواجد الأميركان والفرنسيين بغرض منافسة بريطانيا وهولندا في التجارة العالمية، وإقامة علاقات وطيدة مع الدول المطلة على المحيط الهندي والبحرين العربي والمتوسط.


وتقول المؤلفة: إن اهتمام الانجليز بالبن اليمني كسلعة تجارية بدأ منذ وصولهم إلى اليمن، فقد توقع جور داين منذ 1609 الفوائد من تجارة البن الذي يزرع في المناطق اليمنية القريبة من ساحل البحر الأحمر.


ولم يغفل الهولنديون عن الأهمية التجارية للبن فقد نبه التاجر بيتر فان دن بروكه الهولنديين إلى ذلك في عام 1616، كما قدم التاجر الهولندي يوهن كرستزون إلى مدير الشركة في سورات فيلبو لوكس وصفا لمدينة المخاء في 22 نوفمبر 1633 ذكر فيه بأنه في المخاء كانت تشكل التجارة الرئيسية ـ أي التصدير ـ من القهوة".


وبدأت الشركات الأوربية في نقل البن إلى الهند وبلاد فارس، حيث كان الهولنديون يجلبون البن من المخاء الى مراكزهم في شمال غربي الهند وبلاد فارس، وكذلك الحال بالنسبة لشركة الهند الشرقية الانجليزية، التي كانت تنقل البن إلى المناطق السابق ذكرها. ولم يصل البن إلى انجلترا حتى سنة 1650 كما لم يظهر في قوائم البيع الخاصة بالشركة حتى سنة 1660، بسبب طول فترة نقله، حيث كان يستغرق وقتا طويلا، كما لم يبدأ بيع البن في أمستردام الهولندية إلا في عام 1662، حيث كان ذلك لأول مرة ولم يجلب إلى هولندا مباشرة من المخاء إلا بعد مضي عامين من ذلك التاريخ.


انحسار البن اليمني:
ويعد النصف الأول من القرن الثامن عشر الميلادي -أهم فترات تجارة البن في اليمن- فقد بلغ التنافس الدولي حول تجارته الذروة، وقد شهدت هذه الفترة دخول العديد من الامم الأوربية غمار تجارته، بسبب التزايد المطرد لعدد مستهلكيه.


وأشار الكتاب إلى أن زيادة التنافس على تجارة البن أدت إلى حدوث ارتفاع كبير في أسعاره في اليمن، الأمر الذي دفع الشركات الأوربية لمحاولة إيجاد مصادر جديدة للحصول عليه بأسعار أرخص، لذلك لجأوا إلى محاولته زراعته خارج اليمن، وهو ما نجحت شركة الهند الشرقية الهولندية في القيام به.. مشيرا إلى أن أول محاولة لزراعة البن خارج اليمن كانت عام 1696، حيث تم خلال ذلك العام نقل أو شجيرات بن الى بتافيا بهدف زراعتها هناك، ولكنها ماتت بسبب الهزات الأرضية والغرق، ولكن كان الحظ أوفر في نجاح زراعة بعض شجرات البن اليانعة التي نقلها الحاكم العام زوارد كورن إلى جاوه. وفي عام 1707 أمر مجلس مدراء الشركة السبعة عشر في هولندا بتشجيع زراعة البن في جزر الهند الشرقية، وقد أظهر الحاكم العام هورن اهتمام كبيرا بزراعته، وبعد مرور مدة وجيزة من محاولة زراعة البن في جاوه كتبت حكومة بتافيا في عام 1711 إلى هولندا أنهم تمكنوا من قطف 894 باوندا من البن في جزر الهند الشرقية، وقد تم نقل تلك الكمية مباشرة إلى هولندا، حيث تم بيعه في أمستردام وميدلبرج في عام 1712.. وقد بدأ الهولنديون زراعة البن في جاوه ثم نقلوها إلى جزر الهند، حيث انتشرت زراعتها في شرق وغرب الهند ثم نقلت إلى أميركا اللاتينية خاصة البرازيل، حيث نجحت زراعته بشكل كبير.


ولم تقتصر عملية نقل شجيرات البن ومحاولة استزراعه خارج اليمن على الهولنديين، فقد قام الفرنسيون بذات العمل عام 1711 ونجحت في استزراع البن في العديد من مستعمراتها في جنوب شرق آسيا، وفي القرن الثامن عشر بدأ الفرنسيون استيراد البن من غرب الهند، وخلال السنوات التالية فاق إنتاج غرب الهند من البن ما ينتجه اليمن منه، وفي عام 1746 بدأ الفرنسيون في تغيير اتجاه الطريق الذي كان يتدفق البن عبره، عن طريق تصدير من غرب الهند إلى الشرق.


وتشير الباحثة إلى أنه لم يكن الهدف من زراعة البن خارج اليمن كسر احتكار السلعة فحسب، ولكن أيضا من أجل تغطية احتياج السوق الأوربية من هذه السلعة وخاصة بعد أن فشل اليمن في سد ذلك الاحتياج، بسبب زيادة الطلب العالمي على البن من ناحية والظروف الطبيعية والسياسية التي جعلت اليمن عاجز عن الوفاء باحتياجات السوق من هذه السلعة من ناحية ثانية.


وأوضحت الباحثة إن نتائج نجاح زراعة البن خارج اليمن كارثية على اليمن نفسه، من الناحيتين السياسية والاقتصادية فقد نتج عن ذلك انخفاض معدل دخل اليمن من الأموال الناتجة عن تجارة البن، وبالتالي تدهورها اقتصاديا، مما ينتج عنه في نهاية الأمر زيادة حدة الاضطرابات الداخلية، وهذا يعني بالضرورة بأن الاستقرار السياسي في اليمن كان مرتبطا ارتباطا كبيرا بقدرته الاقتصادية.


لقد أدى ضعف اليمن الاقتصادي نتيجة نضوب الموارد المالية الناتجة عن تجارة البن إلى حدوث الكثير من حالات الانفصال عن الحكومة المركزية في صنعاء، وابتداءً من عام 1760 أصبحت سلطة الإمام تتعرض للتهديد المستمر من قبل بعض القبائل الثائرة، وبحلول عام 1763 كانت عدن والمناطق المجاورة لها في قعطبة وتعز، والمنطقة الشمالية في أبو العريش منفصلة عن حكومة صنعاء، وتعد حالات الانفصال تلك دليلا كافيا على ضعف الدولة عن فرض سيادتها على كامل الأراضي اليمنية، والناجم عن ضعف مواردها الاقتصادية والذي كان خل البن احد أهم ركائز تلك الموارد.


البن وراء احتلال عدن:
تكشف الباحثة -في كتابها- حقيقة جديدة، ربما تكون خافية على من اطلعوا على تاريخ اليمن، فتؤكد أن الاحتلال البريطاني لعدن يعود إلى الرغبة في السيطرة على تجارة البن.


وفي هذا الصدد تقول الباحثة: "لقد ظلت تجارة البن والسيطرة عليها واحدة من أهم أهداف القوى المتصارعة في اليمن، فبريطانيا كانت تنظر إلى قيام أميركا بنقل كميات كبيرة من البن منذ عام 1798 على أنه عمل عدائي موجه ضدها لذلك بدأت تحركاتها من اجل استعادة سطوتها على هذه التجارة المربحة، وذلك عن طريق إرسال البعثات العلمية لإجراء مسوح جغرافية، ودراسة إمكانية احتلال عدن وتحويلها إلى قاعدة عسكرية وتجارية. وقد كانت تلك البعثات معنية أيضا بدراسة الوضع الاقتصادي في اليمن، وتقديم تقارير عنه.


وتقول الباحثة: "بالرغم من أن ذرائع بريطانيا من أجل احتلال عدن كان إنشاء محطة لتزويد السفن بالفحم - بعد أن اخترعت بريطانيا سفنا بخارية تعمل بالفحم - إلا أن الأهداف الإستراتيجية والمتمثلة بتحويلها إلى قاعدة عسكرية لم تكن خافية على القوى الموجودة في المنطقة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن البريطانيين لم يكن اهتمامهم البالغ بالسيطرة على الطرق التجارية، وبخاصة الطرق المتحكمة في تجارة البن، وقد أطنب الكابتن هينس كثيرا في ذكر الأهمية الاقتصادية لعدن حين قال (إن الإمكانيات الكبيرة لعدن في إنماء التجارة، وتنشيطها والتي لا يتمتع بمثلها ميناء آخر في شبه الجزيرة العربية، واحتمالات بزوغ شمسها لا بد لها أن تسبب بسرعة في التقليل من أهمية المخاء وموانئ البحر الأحمر الأخرى).


وقد سعى الكابتن هينس إلى الاستفادة من موقع عدن الاقتصادية بسرعة، فما إن تمكن من إحكام سيطرته على عدن - بقصة نهب السفينة البريطانية المعروفة - حتى سعى إلى تحويل التجارة إليها، خاصة تجارة البن، فقد أرسل رسالة إلى الإمام في صنعاء يعلمه بأن البريطانيين قد احتلوا عدن ويشجعه على تحويل تجارة البن إليها، حيث قال في رسالته: "وأنتم تعلمون الطريق الأصلي بين صنعاء، وعدن وأشجار البن، ومحصولات تحت يد حكومتكم، فإذا أصدرتم أمرا إلى التجار بأن يسوقوا بضائعهم نحو عدن بدلا من سوقها لبنادر اليمن الأخرى، فإن في ذلك نفع عظيم من الجهتين، كما لا يخفى ذلك بأدنى ملاحظة".


بعد هذا السرد التاريخي تضع الباحثة في خاتمة الكتاب تساؤلا مفاده: هل بالفعل أصبح البن اليمني، والذي طار صيته إلى أرجاء العالم في يوم من الأيام في ذمة التاريخ؟
ترد الباحثة بقولها: "الإجابة على هذا السؤال ليس بالأمر الهين لكنه ليس مستحيلات أيضا، فأهمية البن كسلعة تجارية تكمن في كونه مادة استهلاكية واسعة الانتشار، وفي نفس الوقت ذا مردود مادي كبير يمكن أن يحقق دخلا جيدا للبلاد إذا ما تضافرت الجهود الرسمية والشعبية، ولن يتأتى ذلك إلا بتشجيع المزارعين على زراعة البن عن طريق تزويدهم بالسلالات المحسنة من البن، وتوفير السوق اللازمة لتصريف البن، وتقديم أسعار مغرية لشراء محاصيلهم، ودعم الدراسات والأبحاث المتعلقة بزراعة البن وتجارته، وعمل دراسات الجدوى لقيام مشاريع زراعية وتجارية بهذا الخصوص، وتشجيع القطاع الخاص الذي بأن يعمل في تجارة البن من أجل إقامة مشاريع زراعية خاصة بزراعة البن وتسويق، واستغلال الشهرة العالمية للبن في تسويقه عالميا، عن طريق الإعلانات والدعايات المنشورة، بما يضمن تحقيق أرباح كبيرة للتجار والمزارعين في نفس الوقت.


صحيفة السياسية


 

أضف تعليقاً على هذا الخبر
ارسل هذا الخبر
تعليق
إرسل الخبر