يمن موبايل تنظم حفل استقبال وتوديع مجلس إدارتها    شركة يمن موبايل توزع عائدات حملة دوائي السادسة للأطفال المرضى بسرطان الدم    برعاية السلطة المحلية البورد العربي يدشن برنامج اعداد المدرب المعتمد في دمت   يمن موبايل تختتم فعاليات اسبوع اليتيم العربي بيوم ترفيهي لطلاب دار الايتام    وزارة الاتصالات تعمم بتطبيق قانون صندوق مكافحة السرطان   بطولة النصر الشتوية بدمت تواصل نألقها والريادة يحصد نتيجة اليوم التاسع للبطوله   مقاضاة مسئولة سابقة بتهمة التخابر مع صنعاء    شركة يمن موبايل تدشن الخطة الإستراتيجية 2019-2023م   لاعب منتخب الطاولة جبران يحرز بطولة البحرين الدولية للناشئين والأشبال    تعيين الاستاذة/ أم كلثوم الشامي مديرا تنفيذيا للمدرسة الديمقراطية   
شبكة أخبار الجنوب - الشهيد - يحيى المتوكل

الخميس, 20-يناير-2011
شبكة اخبار الجنوب - ترجمة وتعليق : نزار العبادي -

مواكب الأحرار لا يضنيها تاريخ بعينه، أو تستوقفها محطات سقم مكفهرة.. فهي وحدها من يكتب أسفار التاريخ، وينتفض على الحقب العليلة، وتنتزع سرطانات الأوطان حتى وأن كلفها الأمر بذل العمر ثرى طاهرة لوجه الأرض الجديد، تستوقفنا اليوم لسكب العبرات في محراب "المتوكل" بعد أن عادت (خديجة السلامي) من غربتها مثقلة بـ(دموع سبأ) لتقرأ على مسامعنا ابتهالات مسيرة الكفاح، والنضال في موكب رجل مازال يحيا في الذاكرة، ويتربع الأفئدة.


لقد احتل يحيى المتوكل حيزاً كبيراً من ذاكرة اليمن التاريخية، حتى بات قدوة الكثير من اليمنيين. وعلى هذا الأساس نجد أن الأستاذة خديجة السلامي– رئيسة المركز الاعلامي في سفارة اليمن بباريس، والمخرجة المشهورة- أفردت لسيرة حياته (رحمه الله) فصلاً كاملاً في كتابها الأخير (دموع سبأTears of Sheba ) الصادر باللغة الإنجليزية في ديسمبر 2003م.. ولربما لن نجد وقتاً أكثر من الذكرى السنوية الثامنة لوفاته، التي توافق يوم 13 يناير 2003م، استحقاقاً لسرد سيرة حياة المتوكل– كما روتها خديجة السلامي..


(( 1 ))
 استهلت السلامي الأسفار من رحلها الأول قائلة:(ولد يحيى المتوكل في ربيع عام 1942م في مدينة نائية لا تتعدى منازلها الحجرية العتيقة المائة منزل. وتقع في واحدة من أكثر البقاع اليمنية وعورة، بمسافة 35 ميل شمال غرب صنعاء – إذا ما قطعنا المسافة بخط مستقيم.
فقد كانت قرية "شهارة" تتربع قمة جبل بارتفاع 8000 قدم، وكان أئمة اليمن يلوذون بأنفسهم فيها في كلا الإحتلالين العثمانيين لليمن جاعلين منها معاقلاً لتنظيم صفوف كفاحهم ضد الغزاة؛ حيث أن "شهارة" أُعمرت معظم أجزائها على أيدي أسر من السادة الذين حضيوا بنصيب وافر من حكم اليمن عبر القرون، إذْ كان من المؤمل أن يجد الإمام ترحيباً مؤازراً من سكان "شهارة" في مناهضته للغزاة)
وتنقل –خديجة السلامي عن يحيى المتوكل – قوله:(أن أول إمام من أسرتي كان الإمام القاسم الملقب بالمنصور في القرن السادس عشر الميلادي الذي طرد الأتراك من اليمن هو وأبنائه، فصار إمسه – المتوكل على الله.
وكانت صفة –سيد- تضفي على يحيى بعض الامتيازات منذ طفولته – باستثناء أن يراوده الحلم ذات يوم- بأن يتبع أثر بني القاسم ليصبح إمام).
وتنقل خديجة عن يحيى قوله أيضاً:( لقد عشت في الطابق العلوي من بيت الأهل الحجري المؤلف من طابقين، والذي يشاطرنا إياه عدد من الأعمام، وأسرهم) ويضيف:(كان معظم أهالي شهاره يعملون في مناصب بالإدارات الحكومية بالمناطق الخارجية للبلد. وكان الكثير من أبناء القبائل الذين يقطنون حول القرية يتوجهون إلى صنعاء بحثاً عن فرص عمل في الحرس الإمامي الخاص، ولهذا فإن شهارة كانت –تقريباً- تكاد تخلو من الذكور الذين هم في سن العمل- باستثناء أيام الإجازات عندما يعود الكثير منهم لزيارة أسرهم.
وكان الجامع الرئيسي في "شهارة" لا يتسع إلاّ لعدد محدود من الطلاب الراغبين في إكمال دراساتهم لما بعد مدارس القرآن غير النظامية. إذْ كانت تلك المدارس تتعمق في تعليمها لتشمل على النحو العربي، والفقه الديني مما جعل إكمال الدراسة في المساجد يعني التأهل للعمل بالخدمات العامة.
درس أبي في المسجد، فأصبح قاضي في الحكومة (حاكم) بعد تخرجه ثم صار -لاحقاً- مسئولاً عن تحصيل الزكاة في منطقتنا، وكانت أمي من بني المتوكل – أيضاً- ومن بنات عمومة أبي، وقد توفيت وأنا لم أزل في الخامسة من عمري، وبعد ذلك بفترة وجيزة نقلت الحكومة والدي إلى قرية المحابشة).
وهنا تعلق خديجة السلامي على الحدث:(وكانت "المحابشة" تبعد عن شهارة مسافة رحلة 12 ساعة على ظهور الجمال، وهناك مكث يحيى، وأبوه لثماني سنوات، لكن يحيى كان دائم التردد على قريته الأصلية لزيارة أخوتة الستة، وزوجة أبيه الثانية؛ حيث أنه لم يكن له أخوات – رغم أنه لم يكن على وفاق معها).
وتضيف– متحدثة عن طفولته:( خلال طفولته وفي صبابته كان يحيى لا يتناول إلاّ القليل من وجبات الطعام التي لا تتعدى أن تكون شيئاً من الفول المهروس، وقرص خبز يغتمس به)، ثم تنقل الكلام على لسان يحيى:_( كنا نأكل اللحم مرة في الأسبوع _ أي أيام الجمع- وأحياناً عندما نحتفي بضيف، أو زواج، أو مناسبة دينية، ولم أتذوق فاكهة إلاّ بعد أن بلغت سن الرابعة عشرة، ولا أي خضروات غير البصل الأخضر، والفجل الأبيض الطويل الذي كانت أمي، وكذلك زوجة أبي تخلطه مع الفول).
ثم تعود خديجة للسرد قائلة:(كان والد يحيى قد خطط لحياة أبنائه منذ إن كانوا في مهادهم، فكان عقد عزيمته على تزويج كل واحد منهم بسن السادسة عشرة، ومن ثم اتاحة الفرصة لكل فرد منهم للاستقلال بنفسه في منزل مستقل بالجوار) مضيفة في تعليقها على فرص التعليم:(كان أبو يحيى يخطط لأن يفسح فرصة التعليم لواحد، أو اثنين من أبنائه السبعة ليصبح موظفاً حكومياً مثله، بينما يلتفت الآخرون لأعمال الزراعة في أراضي الأسرة حول القرية).
وتروي على لسان يحيى:(كان أخي أحمد الذي يكبرني بسبع سنوات يتطلع إلى ترك "شهارة" والسفر إلى صنعاء للدراسة، لكن أبي لم يكن سعيداً بذلك، ولم يأذن له به إلاّ بعد توسلات، وكان أحمد يبعث لنا الرسائل بانتظام واصفاً فيها دراسته وعجائب ما احتوت صنعاء، وكان أبي أحس بغربة أحمد، لكن الاستخدام البارع للغة العربية الفصحى في رسائله- التي هي لغة القرآن الكريم، وليست اللغة المحلية التي تستخدمها عامة الناس- جعلته في موضع انبهار وإعجاب).
وتعلق خديجة قائلة:(ومنذ البداية كان أحمد يغرس فكرة الالتحاق معه في رأس يحيى، ومع إن والده للتو قد اختار زوجة ليحيى من "شهارة"، لكن يحيى ما لبث أن تعلق قلبه بفكرة الذهاب إلى صنعاء – أيضاً. إنه كان يود معرفة المزيد عن العالم الخارجي الذي لطالما سمع شيئاً عنه عبر راديو في منزل أحد التجار في شهارة عندما كان أصغر من الآن).
وتستطرد خديجة حديثها في سيرة المتوكل ناقلة على لسانه قوله:(لقد اعتدت وبعض الأصدقاء أن نتجول بالجوار من بيت التاجر، وكنا إذا ما لازمنا الهدوء بالكاد نستطيع سماع صوت الراديوا في داخل البيت؛ حيث أننا لم يكن لدينا المال الذي ندفعه ليسمحوا لنا بالدخول والاستماع مثل الكبار.
وكان معلم الدين في المدرسة يسميه "الصندوق المتكلم" وقال إنه:"من أشكال السحر" وإنه شيء لا ينبغي علينا الاستماع له، لكن بالطبع كان ذلك مدعاة لإثارة فضولنا أكثر).


(( 2 ))
 (سمح والد يحيى لأبنه باللحاق بأخيه، متخلياً – على مضض- من أمل أن يرى كل أبنائه يتزوجون ويستقرون في القرية بجواره. ولم يكن يحيى سوى ابن (14) عاماً عندما أرتحل به الوجد إلى صنعاء، حيث الحياة التي لم يذق لها طعماً من قبل طول ما أمضى من عمر في شهارة.
لمح يحيى موطنه الجديد للوهلة الأولى من على ظهر حماره ، إذ ينساب الطريق منحدراً أسفل السهل لبضع أميال من شمال المدينة. فقد ظلت صنعاء ذلك المكان الساحر رغم أن الأمام أحمد نقل العاصمة إلى تعز منذ الثماني سنوات).
بتلك العبارات السردية واصلت خديجة السلامي رحلتها في ركب يحيى المتوكل، لتقف على حين غرة عند صورة الحرمان إذ ترتسم في عيني الفتى المبهور بالمدنية، فتروي على لسان يحيى قوله:( وفي داخل بعض المباني الحكومية القابعة وسط المدينة المسوّرة رأيت كرات زجاجية صغيرة تتقد بوهج الضياء، ولكن من غير احتراق فعلي. أنها لم تكن إلاّ إضاءة كهربائية تغذيها المولدات، لكنني لم يبلغني علم بهذا من قبل.. وفي أزقة "سوق الملح" وجدت الفاكهة والخضرة، والحلويات، وأطعمة أخرى كثيرة جداً لم أرها في حياتي قط. وبدا لي السوق وحده أكبر من شهارة كلها).
وتعلق خديجة : (توقف يحيى لبرهة، وارتسمت ابتسامة عريضة على وجهه) وواصل كلامه: ( لدرجة أنني هربت راكضاً عندما رأيت صبياً يسوق دراجته الهوائية باتجاهي.. فإنني لم تكن لدي أدنى فكرة عما يمكن أن يكون هذا الشيء).
عاودت خديجة السرد قائلة: ( التحق يحيى بالمدرسة واستقر بدراسته بسرعة. وكان محب للتحدي ، وقد أمدته طبيعته التنافسية بقدرة التفوق لنجدة يتخطى بثبات إلى مركز الصدارة لفصله.. لكن بعد عامين من وصوله صنعاء، تلقّى يحيى نبأ وفاة والده إثر مرض عضال ، مما حدا الأمر بيحيى وأخوه إلى العودة للقرية ثانية لأقرار شئون أسرتهما.
وذات يوم –في البيت- رأى أحمد أنه قد نال نصيبه من حياة المدينة، لذا عقد قرانه بفتاة من بنات قريته، واستقر به المقام بالقرب من دار أبيه القديمة. أما يحيى فقد عاد إلى صنعاء بعد فترة وجيزة، وبسرعة استطاع تعويض أسابيع الدراسة التي فاتها عندما كان في شهارة، وتخرج من الثانوية في السنة ذاتها 1958م ، وبأعلى الدرجات في فصله.. ويقيناً أن أباه كان سيفتخر به.
فكّر يحيى فيما عساه أن يفعل في دنياه بعد التخرج، وبعد استنتاجات اعتبارية قرر أخيراً أن يتابع التوظيف في الجيش، وهو خيار تطرفي عند السادة ، لكن هذا القرار غير التقليدي ما لبث أن استحال موطن تفوقه على أقرانه).
وهنا تحاول خديجة السلامي إضفاء معالم تاريخية واضحة للحدث السياسي العام للدولة لتحديد أبعاده المكانية والدرامية، فتتطرق إلى توتر علاقة الإمام ببريطانيا، وشرائه عدد من الطائرات ، ثم افتتاح أول أكاديمية للقوى الجوية بقيادة السلال. لتواصل حديثها عن يحيى المتوكل قائلة: (قدّم يحيى للأكاديمية، وقُبل فيها، لكن عندما لاحظ السلال اسم –المتوكل- في قائمة المقبولين، سأل مرافقيه: "ماذا يعمل هذا السيّد في الأكاديمية؟).
مضيفة: ( وأصدر أمره بغضب: "أبعدوه من القائمة" لكن الجنرال المصري أصر على موقفه مؤكداً أن يحيى يستحق الشكر على دخول الأكاديمية لأنه حصل على أعلى الدرجات، فتراجع السلال عن قراره.
لم يكن ليحيى أية أسرة في صنعاء لتعينه، لذا عاش على المعونات الضئيلة التي تبذلها له الأكاديمية،والتي لا تتعدى خمس أقراص "كُدَم" في اليوم، وريالين شهرياً).
وفي هذا تنقل خديجة السلامي كلام يحيى نفسه: (في كل صباح كنت أبيع اثنين من "الكُدَم" التي يعطوني إياها، واشتري بثمنها كوباً من الشاي، وأي شيء آخر اكتشفه لأول مرة في صنعاء. وعادة ما كان ثمن إحدى هذا الكُدَم يغطي تكلفة الشاي، لكنني أمسيت رجلاً يستطيب الحلو ولا أستطيع شرب الشاي بدون قطعة سكر إضافية، كان ذلك ضرورياً ويكلفني بقدر ثمن الشاي. وكان زملائي يسمونني" الميت" لأنني كنت نحيفاً جداً من جراء عدم تناولي جميع الكُدَم).
تستأنف خديجة السرد قائلة: (في عام 1959م شعر يحيى وبقية زملائه في الأكاديمية بان وظائفهم العسكرية ستذهب أدراج الرياح من قبل حتى أن يباشروها، فالأمام المستبد أحمد عندما عاد من رحلته العلاجية في إيطاليا ساورته الشكوك بأن المصريين ضالعين في حركات التمرد التي تغوص بها اليمن، فقام بترحيل الجنرال المصري الذي كان في أكاديمية القوة الجوية ، وأغلقها).
ويقول يحيى في هذا:( لكن السلال كان يعتقد أن الإمام سيتراجع عن قراره سريعاً، لأنه يعرف أنه ينبغي على أحد ما – في آخر الأمر- أن يقود إحدى طائرات البلد الجديدة الباهضة. وهكذا حُرم الطلاب من حصصهم من الكُدَم وما كانوا يتقاضونه آخر الشهر. إلاَ أن السلال أخبر الطلاب بأننا نستطيع مواصلة العيش في غرف السكن الداخلي إذا أردنا ذلك، وقام ببيع براميل من زيت التشحيم من مخازن الأكاديمية من أجل إطعامنا. وبعد ستة أشهر ثبت صدق قول السلال. فقد أعاد الإمام فتح المدرسة، ولكن حوّلها إلى أكاديمية للتدريب على القفز المظلي مستعيناً في ذلك بالروسيين ليعطونا دروساً في هذه الفترة).


(( 3 ))
تواصل خديجة السلامي سردها لسيرة يحيى المتوكل قائلة:
(في مارس 1961 سافر الفصل الذي فيه يحيى إلى الحديدة لإجراء قفز مظلي من الهواء، واتفق الأمر أن وصل الإمام احمد إلى المدينة الساحلية في نفس الوقت لعمل تصوير شعاعي بأحد الجهازين اللذين كانت تمتلكهما اليمن " إذ كان الإمام مفتوناً بالتصوير الشعاعي، ويصر على أن يكون واحدا من هذين الجهازين برفقته أنى ذهب" ، وبينما كان الإمام داخل المستشفى تم تنفيذ محاولة انقلابية عليه أردته مضرجاً بجراحات أثني عشرة رصاصة، لكنه نجا منها ثانية، وبأعجوبة.
وجه الإمام احمد أصابع الاتهام للضباط اليمنيين في أكاديمية القوات المحمولة جداً، وأدعى ضلوعهم بالمؤامرة. لكن أثبتت التحقيقات النهائية براءة ساحتهم من التهمة، فاستأنف الطلاب تدريباتهم، وكان يحيى أول من يُلقي بنفسه من الطائرة خلال الحفل العسكري اليمني لتدشين القفز المظلي.
وبعد التخرج تمت ترقية يحيى إلى رتبة ملازم ثاني، ثم انضم إلى وحدة المدفعية. وهناك كان أول اتصال له بالحركة الإصلاحية السرية المسماة بـ(تنظيم الضباط الأحرار) وكان الزعيم جمال عبد الناصر وسقوط الملك فاروق بمصر في عام 1952م قد ألهم الضباط بعقد اجتماعات سرية لوضع المخططات الكفيلة بالإطاحة بالنظام الإمامي.
وظلت هذه الخطط تسير ببطء شديد - كما خطى الحلزون - عبر السنين حتى توفقت إلى إزاحة الإمام في سبتمبر 1962م. لكن سرعان ما لاحظ الثوار أن خلفه البالغ من العمر 35 عاماً- الإمام محمد البدر- منذ أسبوعه الأول من السلطة لم يلق بالاً للقوات المسلحة في حسابات القوة ، فكان أن امتعض الضباط كثيرا من قيادة البدر).
ثم تأتي خديجة السلامي على ذكر ما آل إليه وضع اليمن السياسي في العهد القصير للإمام البدر، ومدى افتقاره الشديد للحنكة والمهارة في إدارة شئون الدولة، وصولاً إلى الذروة قائلة:
(في غضون بضع ساعات وضع الثوار خطتهم، لاقتناص فرصة حظ زاغت من بين أيديهم لعدة سنوات. فقسّم الثوار قواتهم إلى خمس مجاميع، إحداها كانت مؤلفة من ثلاث دبابات وكان عليها أن تبادر بإشعال الثورة من خلال هجوم يستهدف القصر، بينما فرقة مدرعة ثانية كانت مكلفة بالاستيلاء على قصر السلاح بكل مخازنه وأسلحته والذخيرة التي فيه، وهناك وحدة أطقم (عربات) بأسلحة خفيفة تم تخصيصها لمحاصرة محطة إذاعة صنعاء والسيطرة عليها، بينما كانت وحدة مدفعية رابعة مكلفة بمحاصرة وعزل المراكز القيادية العسكرية، في حين أن المجموعة الخامسة كانت وحدة المدفعية التي فيها يحيى، وتم وضعها في جنوب المدينة وأعطيت لها الأوامر لضرب أية جيوب مقاومة من المحتمل انبثاقها في صنعاء. وقيل أن المشاركين بهذه الثورة لا يتعدون المائة ضابط، يؤازرهم عدد من مشائخ القبائل الذين أخبرهم الثوار بالحركة قبل الشروع بها بزمن قصير جداً.
وفي الخامس والعشرين من سبتمبر 1962م تحركت وحدة المتوكل المؤلفة من 15 رجلاً إلى موقعها بصحبة ثلاثة مدافع وبنادق آلية فضلا عن الألغام الأرضية العسكرية، وشاع الخبر بين القوات المسلحة بأنه ستتم الإطاحة بالإمام في اليوم التالي.
في مساء يوم الثورة كان يحيى – ابن العشرين عاماً- قد بلغت به القناعة أن العالم على وشك التقاط نفَسَه الأخير، فلم يسبق لأحد أن هاجم الإمام، وربما عاش ليقول لنا هذا، إذ أن أولئك الذين تجرءوا وحاولوا أضاعوا قروناً من التاريخ اليمني هباءً. فكان يحيى يرى أن ربما كل فرد من هؤلاء المكلفين بالمهمة بات يلوذ في هواجس من الأسى حول ما يمكن أن يؤول إليه مصيره.
وفي يوم الحسم كانت إمارات الخوف بائنة في وجه يحيى، وربما فتحت له شهيته السكرية).
ثم تنقل خديجة الكلام على لسان يحيى الذي كان يتذكر بشغف: (أخذت كل ما تبقى معي ومع أحد أفضل أصدقائي من مال وذهبنا معا إلى سوق الملح، وصرفنا المال حتى آخر قرش منه في شراء الشكليت، وحشونا مختلف جيوب بدلاتنا العسكرية به حتى بدا أحدنا كما لو أنه أوشك الانفجار، ثم تهادينا على مهل عائدين إلى موقعنا لتحضير المعدات الخاصة بمهمة اليوم التالي.. استلقيت في أحد المواضع التي حفرناها للمدافع، وكان مبللاً يغطيه الوحل من جراء مياه الأمطار التي هطلت منذ فترة وجيزة. وكانت ريح الليل تكاد تجمدنا، ولكن الشكليت الذي كان في جيبي قد أخذ بالذوبان باعثاً في نفسي الإحساس بالدفء).


(( 4 ))
تستأنف خديجة السلامي حديثها عن ليلة الإعداد لثورة 26 سبتمبر ضمن سردها لسيرة يحيى المتوكل، فتقول: (لمح المستشارون الخاصون للإمام التحضيرات المريبة التي كان يقوم بها يحيى ووحدات أخرى معينة حول صنعاء تلك الليلة، لكن كان لتجاهل الإمام البدر للعودة إلى مشورتهم منذ توليه زمام السلطة جعلهم في حالة من الإحباط أحالت دون إخباره بتلك التحركات المريبة.
ولما بدأ الهجوم بالدبابات على القصر في اليوم التالي، ثبت بعض حرس البدر في موقعه ودافع ببسالة، إذ يقول يحيى عن ذلك اليوم التاريخي "استطاع أحدهم اعتلاء ظهر الدبابة التي كانت تتقدم الرتل المتوجه إلى القصر، وصب البترول عليها فابتلعتها ألسن اللهب في ممر غير واسع أحال دون تقدم المدرعات الأخرى، الأمر الذي فاقم من معاناة الجميع من جراء انسداد الطريق المؤدي إلى القصر. إلا أن أحد الضباط قرر الاتصال بوحدتي طالباً الغوث، فقصفنا القصر بكل ما كان لدينا من ذخيرة، وفي غضون بضع دقائق آتينا على كل الـ45 قذيفة التي كانت بالمستودع، وكان ذلك كل ما كانوا يحتاجون إليه، فالإمام لاذ بالفرار نحو البراري المقفرة.
كان يحيى واحداً من بين عدد قليل من السادة الذين شاركوا بالثورة منذ بدايتها. وعلى الرغم من حقيقة التضحيات التي بذلها من أجل الثورة والتي كانت يمكن أن تكلفه حياته لكنه ما لبث أن واجه وابلاً من الشبهات فيما بعد. وكان يحيى في إحدى المرات أن وجه مدافع وحدته صوب مسقط راسه -شهارة- عندما صادف أن احتلتها القوات الملكية. فقد كان يحيى واحداً ممن دعموا الجمهورية بلا هوادة.
استدعى الثوار عبدالله السلال وطلبوا منه أن يكون الرئيس الجمهوري الأول. وكان السلال في السابق رئيساً لأكاديمية القوة الجوية لكنه لم يكن من بين الذين خططوا للثورة، إلا أن الثوار كانوا يعتقدون أن بنيته وسمعته سيكونان بمثابة مغنماً عظيماً تستمد منه الثورة دعماً كبيراً في الوقت الذي لاذ الإمام شمالاً ليحشد ولاء القبائل وليلتمس من المملكة العربية السعودية الدعم المالي.
وبعد ثلاثة أيام من عمر الثورة تولى يحيى قيادة كتيبة مؤلفة من 120 رجل ومجهزة بثلاثة مدافع، وثلاث عربات مسلحة، وثلاث دبابات وتوجه بها نحو منطقة شهارة لمواجهة القبائل الموالية للملكيين هناك، وكان يحيى هو الرجل الوحيد في كتيبته الذي يعرف كيفية تشغيل المدافع.
وفي أحد الأيام من أواخر عام 1962م قاد يحيى وحدته عبر سهول (عضر) المأهولة بمجاميع متفرقة من السكان، وهي من بلاد حاشد الواقعة شمالي شهارة، وكانت القوات المعادية كامنة في المنطقة بأعداد كبيرة جداً تفوق ما كان بأمرته، لكنه عقد العزم على الحيلولة دون إتاحة الفرصة للملكيين لاستشعار ضعفه وتحقق مآربهم التي من الممكن أن تنتهي إلى كارثة بحق الجمهوريين. فأرسل مجموعتين لمهاجمة الخصوم من الأجنحة تاركاً القوة الرئيسية على أهبة الاستعداد تتقدم ببطء باتجاه المركز: فكان أن نجحت الخطة وانسحب الملكيون بوجه ما خالهم أنها قوة ضاربة).
وتنقل خديجة بعض قول يحيى: (عندما وصلنا قرية "سكيبات" الصغيرة غلبنا الظن أن الملكيين قد أخلوا الموقع للتو فتقدمت رجالى ماضياً في الطريق الرئيسي غير مبال لشيء وكان الشيء الوحيد الذي توارد إلى مسامعي هو صوت إطلاق ناري من بندقية قادم من نافذة أحد البيوت القريبة، وفي اللحظة ذاتها داهمني إحساس بأن ذراعي اليسرى والفخذ كما لو أنهما نسفا بشيء).
وتصف خديجة الإصابة التي لحقت بالمتوكل: (إحدى الطلقات كانت قد قطعت العصب الرئيسي لمقدمة الذراع قبل أن تستقر في صدره).
(بعد أن ظفرت رجال يحيى بالقناص الذي كان متوارياً نقلوا قائدهم إلى صنعاء وهو في حالة مزرية مما حدا بالأطباء في العاصمة إلى إسعافه على متن إحدى الطائرات إلى القاهرة لإجراء جراحة عاجلة لإصابته.
وبعد ستة أشهر عاد يحيى إلى صنعاء إلا أن الضرر الذي لحق بذراعه أحال دون السماح له بالعودة لتأدية واجبه القتالي على النحو المطلوب. وفي عام 1963م أرسله السلال ضمن أول بعثة دراسية لضباط يمنيين إلى الاتحاد السوفيتي للدراسة في أكاديمية الضباط المشاة.
أقام يحيى في ثكنات الأكاديمية في مدينة (سولنكنوجورسك) التي تبعد 25 ميلاً إلى الشمال من موسكو. وكان عادة ما يعمل على تمضية الإجازات الأسبوعية بصعود القطار والذهاب إلى موسكو، فالتنظيم والقدرات الروسية العالية- مقارنة باليمن- خلفت وقعاً عظيماً في نفسه.
لكن الدعاية السوفيتية ما لبثت أن وجهت حملتها المكثفة صوب يحيى وزملائه، ليس من قبل أساتذتهم وحسب، بل حتى من قبل بعض الطلاب الأجانب في الأكاديمية ممن كانوا متسيسين على نحو رفيع، فقد كان الطلاب العرب الأكثر شغفاً بالسياسات الشرق- أوسطية ويثيرون الكثير من الأسئلة حول السياسة السوفيتية في المنطقة. إذ أن موسكو دعمت رسميا الزعيم الثوري المصري جمال عبدالناصر، إلا أن أولئك الطلاب المتسيسين كانوا معبئين أيديولوجيا بان القومية العربية التي يؤكد عليها عبدالناصر لا تتوافق مع المفهوم الماركسي للعالم المتماهي الحدود.
إن الانتقادات اللاذاعة التي يوجهها الاشتراكيون للزعيم المصري كانت مثار عدائية الكثير من الطلاب العرب لهم، لأنهم كانوا يعتبرون عبدالناصر بطلاً أو أكثر من ذلك كما هو الحال مع يحيى- الذي رفض أن يكون كارل ماركس" البديل عن رجل العصر الذي يقتدى به.
بعد أن تخرج يحيى من أكاديمية المشاة في أواخر عام 1965م عاد إلى صنعاء ليتبوأ منصب قائد التدريب العسكري للجيش، وكانت الحرب في اليمن في تلك الآونة قد هوت حضيض مأزق عصيب، فخلال السنوات القليلة الأولى للحرب لم يعمل النظام الجمهوري ولا الراعي المصري على تطوير جيش يمني نظامي.
فكان الضباط اليمنيون في حالة من العوز الشديد للإمكانيات، ويفتقرون للتدريب، ولم يكن العدد الإجمالي للقوات المسلحة في عام 1965م يتجاوز العشرة آلاف رجل حيث أن الجمهوريين اعتمدوا بدرجة كبيرة على رجالات القبائل غير النظامية التي تقودها المشائخ فضلاً على 60.000 جندي مصري كان قد تم إرسالهم إلى البلاد).


(( 5 ))
تنتقل خديجة السلامي في هذه الحلقة إلى منتصف الستينات لتروي كيف تطورت الأحداث السياسية في هذه الفترة، وما صار إليه حال يحيى المتوكل آنذاك.. فتعرج على زيارة السلال الطويلة إلى القاهرة عام 1965م، ثم عودته التي أثارت حفيظة عدد من الضباط اليمنيين ودفعتهم إلى التوجه إلى تعز لمعارضة الحكم من هناك – وكان بينهم المتوكل.
إلا أن الأحداث التي تلت ذلك يشترك يحيى المتوكل في روايتها – بحسب المؤلفة- فيقول: (عندما اتصل عبدالناصر بالعمري طلب الأخير مقابلته وجهاً لوجه والاجتماع مع القادة المصريين. فأرسل عبدالناصر طائرتين إلى تعز لتقل العمري وحوالي 50-60 من الوزراء، وضباط الجيش، ومسئولين حكوميين ممن كانوا يعارضون السلال).
وتروي خديجة أن من بين الوفد الذي غادر تعز إلى مصر كان حسن العمري رئيس الوزراء، ويحيى المتوكل وأخوه احمد، والشيخ محمد أبو لحوم، ودرهم أبو لحوم، وإبراهيم الحمدي، وعبدالرحمن الإرياني وعشرات المسئولين).
ثم تنقل الكلام على لسان يحيى المتوكل: (في البداية عاملنا المصريون باحترام كبير، ورحب بنا في المطار رئيس الوزراء بنفسه، وأكد لنا وزير الدفاع المصري سيأتي ليستمع إلى نقاشاتنا، وأخذونا إلى الفندق، وبعد بضعة أيام أعطونا كل ما نحتاج إليه من مال لنستأجر شقق في القاهرة، رغم أننا كنا سنقيم هناك لبرهة).
ويستأنف المتوكل: (انقضى أسبوع حتى تمكن اليمنيون من الاجتماع في نادي الضباط بالقاهرة في 16 سبتمبر 1966 بعد طول انتظار لكنهم عندما أخبرونا بأن وزير الدفاع لن يكون متاح له مقابلتنا وأن وزير الشئون العسكرية سيأتي للتحدث بدلاً عن بددوا كل تفاؤلاتنا، ونهض العمري وعبدالرحمن الإرياني وغادروا المكان احتجاجاً على ذلك.
لازم الباقون منا أماكنهم واستمعنا إلى ما كان يريد المصريون قوله. وحالما دخل وزير الشئون العسكرية بدأ بتشجيعنا كما لو كان معلم مدرسة، إذ ألقى علينا محاضرة بالوضع السياسي والعسكري في اليمن.. وعندما ظل الوزير يتخبط بكلامه أكثر فأكثر رفع علي الخولاني يده ليقول شيء ما، والوزير يحاول تجاهله، لكنه ظل بيده، وأخيراً أوقف الوزير محاضرته ونظر إليه قائلاً: "أنتم هنا لتستمعوا، وليس لتتكلموا" وبتلك الكلمات نهضنا جميعاً وغادرنا المبنى.
سرنا جميعاً إلى المنزل الذي كان يستأجره عبدالرحمن الإريارني، والذي لم يكن بعيداً منا، لنتشاور بشأن الخطوة التالية، لكننا فور وصولنا البيت وجدناه محاصراً من قبل الجنود المصريين وكان العمري والإرياني قد تم اعتقالهما. وأدركنا أنه ليس أمامنا إلا وقت قصير ليتم اعتقالنا أيضاً).
وتعود خديجة السلامي للحديث عن إتفاق الوفد اليمني بالتفرق عن بعضهم البعض وأن درهم أبو لحوم اصطحب طارق وتوجها نحو مركز المدينة ليقيما في شقة يملكها محسن العيني في حين فكر. محمد أبو لحوم بالتوجه إلى السفارة الكويتية لطلب اللجوء السياسي
أما يحيى فأنه بعد افتراق أعضاء الوفد ظل يجوب شوارع العاصمة المصرية وتروي المؤلفة على لسانه: (كنت أعرف أن الأمور متأزمة، لكنني لم تكن عندي فكرة بأن الجميع قد تم اعتقاله، لهذا فأنا قررت حينها أن أذهب لمشاهدة فيلم، إذا أنني اعتدت أن أذهب إلى السينما عند ما كنت في القاهرة أتلقي العلاج لثلاث سنوات على إثر الإصابة التي لحقت بي فلا أحد يعمل أفلام مثل المصريين لقد كانت تريح رأسي من كل ما كانت تعانيه اليمن من مشاكل، وخلال ساعتين وحسب.
بعض رجال الأمن المصريين تابعوني حتى السينما إلا أنني كنت أعتقد أنهم ليس إلا لمراقبتي. وحالما ظهرت عبارة النهاية على الشاشة واشتعلت الأضواء دخل وكلا الأمن وأمسكوا بي وقالوا أنني رهن الاعتقال).
وتعلق خديجة: ( أمر عبد الناصر بالإبقاء على العشرات من أعضاء الوفد اليمني البارزين رهن الإقامة الإجبارية، أما الآخرين فقد زجوا بسجن عسكري بالقرب الجهة الشمالية للقاهرة) مضيفة: ( عندما رماه السجان بالحبس، وجد يحيى أن معظم رفاقه المساكين كانوا للتو قد وزعوا على الزنزانات. وكانت المعاملة التي عوملوا وفقها بمثابة الصدمة للكل، لكنهم لازموا الهدوء محاولين استشفاف ما يضمره لهم المستقبل).
ومما يتذكر المتوكل من فترة الاعتقال بالقاهرة قوله:( في بعض الأحيان كان الحراس يلعبون كرة القدم في باحة السجن، وكان أحدهم يلعب جيدا فعلا ويحب أن يراه السجناء لذلك يترك أبواب الزنزانات غير مقفلة ليجعلنا نفتحها قليلا بالقدر الذي يكفينا لمشاهدة المباراة وكان حسن مكي- أحد المعتقلين معنا- قد اندمج مع المباراة المثيرة فأخرج رأسه كاملا من الباب ليتسنى له المشاهدة على نحو أفضل فكان أن تسلل أحد الحراس خلسة وقذف بجزمته بقوة على الباب بجوار رأس حسن، فدب الفزع في نفوسنا، وخاصة حسن).
( وصرخ الحارس " أدخل رأسك" فقال له حسن بتوتر" كيف لك أن تعاملنا كالحيوانات؟ نحن ناس محترمون" فنظر إليه الحارس رافعا حاجبيه وقال مستهزأ: لو كنتم ناس محترمون لما جاء وابكم إلى هذا المكان")


(( 6 ))
تواصل خديجة السلامي في كتابها (دموع سبأ) سرد قصة اعتقال المتوكل في سجون القاهرة مع آخرين ضمن الوفد اليمني قائلة: (امتدت الأيام وصارت أشهر، وأخذ الوفد اليمني ينتابه اليأس حتى ظنوا أنهم لن يروا الحرية أبدا. وعندما نزل برد الشتاء كان يحيى يحاول أن يبقى في نشاط من أجل أن يحضى بالدفء، حيث أن الجو كان حارا جدا في اليوم الذي تم اعتقاله فيه، ولم يكن يلبس سوى سروال قطني خفيف وقميص نصف كم. وكان يحيى يعمل في كل ليلة لساعات بكشط مونة جدار زنزانته الذي كان يفصله عن صديقه الحميم علي المؤيد، مستخدما في ذلك ( الابزيم) المعدني للحزام، رغم مشقة ذلك.
وهنا تنقل خديجة على لسانة قوله: ( بعد أسابيع من الحفر تمكنت من نزع طابوقة وكنت أرفعها كل ليلة بعد إنقضاء الجولة التفقدية الأخيرة للحرس، ليتسنى لي الحديث عن الأفلام التي شاهدتها لصديقي علي، وليتسنى له بالمقابل قراءة الشعر لي. وفي النهار كنت أعيد الطابوقة إلى مكانها وأحكم إغلاقها بزيت الطبخ، لذلك كان الذباب يتجمع على الدهن بأعداد هائلة حتى يبدو ذلك الموضع كما لو أنه طلي بصباغ أسود، ولهذا لم يكن بوسع الحراس ملاحظة أن مونة الجدار قد تم إزالتها).
وبعد أن تصف المؤلفة حال السجون المصرية التي كانت يقبع بها يحيى ورفاقه تتحول إلى القول: (كان اليمنيون المعتقلون ينتابهم الإحساس بالاقتراب من قبضة الموت طالما وأن مسألة إطلاق السراح كانت تبدو احتمالا يزداد بعدا عن المنال. فالأخبار القليلة جدا والنادرة التي كانوا يتدبرون التقاطها عن العالم الخارجي لم تكن تطمئنهم بقدر كبير، حيث أن أحد اليمنيين الذي أنتهى به الأمر إلى السجن بعد شهور من اعتقال الوفد أنبأهم جميعا بأخبار محزنة تفيد بأن الرئيس اليمني يقود حملة دموية في بلاده لتطهيرها من المناوئين لحكمة، وكجزء من الحملة طالب السلال بتسليمه الوفد اليمني المعتقلين في القاهرة، وتبجح أمام الملأ بأنه سيعدمهم حال عودتهم إلى اليمن.
إلا أن يمنيين متعاطفين مع المعتقلين ناشدوا بإلحاح القادة العرب بإقناع عبدالناصر بالعدول عن رأيه في إرسال المعتقلين إلى موت مؤكد في بلدهم ونجحت تلك الجهود لكن المعتقلين لم يكونوا على دراية بذلك آنذاك، وكانوا في كل يوم يتوقعون أن يسحبون من زنزاناتهم ويسلمون إلى رجالات السلال الذين ينتظرونهم. ولم يكن كل اليمنيين قادرين على التغلب على ذلك الشد الذهني الذي يفوضه واقع الحالة القلقة.
فيذكر يحيى المتوكل- بحسب رواية الكتاب- (في صباح أحد الأيام تم إخراج أحد اليمنيين من زنزانته ليذهب إلى الحمام، وكان بملابسه الداخلية فقط، أما بقية ثيابه فقد لفها على رأسه كما العمامة الكبيرة، فكان بكل خطوة يخطوها يبدو كما لو أن الثقل الذي على رأسه سيطيح به أرضا. نحن جميعا تمالكنا الأسى على حالته، لكن جعلتنا نضحك كثيرا)
ثم تعرج خديجة السلامي على تطورات الأمور مع الجيش المصري في اليمن.
وكذلك نكسه حزيران/ يونيو، واستقالة عب دالناصر، وصولا إلى انسحاب القوات المصرية من اليمن، لتعود بعدها لمتابعة سيرة يحيى ورفاقه قائلة: (وأخيرا أطلق عبدالناصر سراح الوفد اليمني المعتقل بالقاهرة في 10 أكتوبر 1967م فمكثوا في مصر لـ 12 يوم أخرى لمناقشة الوضع اليمني، لكن المسئولين المصريين هذه المرة باحترام بكثير مما عرفوه في الأشهر الـ 13 الماضية).
ويقول يحيى المتوكل متذكرا: (في الثاني والعشرين من أكتوبر سافرنا بالطائرة من القاهرة إلى الحديدة، وفي تلك الآونة تماما شاهدنا آخر الجنود المصريين وهم يحملون على ظهور السفن شادين الرحال إلى وطنهم، وعندما نزلنا من الطائرة قام أحد أفراد لجنة التشريفات باعلا صوت الراديو ليتسنى للجميع سماع خطاب عبدالناصر الذي كان يبث من القاهرة، إذ اعترف فيه: لقد ظلمنا الناس الخيرين في اليمن وآزرنا الناس السيئين في شعبهم) فضحك يحيى وبقية اليمنيين الذي كانوا معه.
تضيف خديجة: (توجه السلال بكل شجاعة إلى الحديدة للقاء اليمنيين العائدين ومحاولة مصالحتهم فانسحاب المصريين قدم السلال كرجل مكشوف تماما لكل من الملكيين، والمناوئين ضمن النظام الجمهوري على حد سواء.
لقد أخبر الوفد بأنه سيسافر إلى بغداد لبضعة أيام، ومن ثم يتوجه إلى موسكو بحثا عن مساعدات عسكرية تدعم الجمهورية بوجه الاعتداءات الملكية التي لا مناص من حدوثها عقب رحيل المصريين) ويتذكر المتوكل قائلا: ( أنه حتى كان يما زحنا عندما كنا على طريق الحديدة وقال لنا: أتمنى أن لا يفكر أي واحد منكم بأخذ مكاني أثناء غيابي).
وتذكر المؤلفة (بعد أن كان يحيى يحتل مركز مساعد قائد معسكر العمرى خلال حصار السبعين يوما على صنعاء، أصبح في عام 1968م مدير مكتب رئيس الوزراء، ثم تمت ترقيته إلى نائب القائد العام للقوات المسلحة في العام التالي، ولم يكن عمره سوى 27 عاما).


 


 

أضف تعليقاً على هذا الخبر
ارسل هذا الخبر
تعليق
إرسال
طباعة
RSS
إعجاب
نشر
نشر في تويتر
اخبار اليمن


جميع حقوق النشر محفوظة 2024 لـ(شبكة أخبار الجنوب)