الأربعاء, 19-يناير-2011
شبكة أخبار الجنوب - نزار العبادي نزار العبادي - شبكة اخبار الجنوب -

حتى اليوم لا أحد يعلم شيئاً عما دار خلف أبواب القصر الرئاسي التونسي في الساعات القليلة التي سبقت إقلاع طائرة بن علي، صوب الرياض، إلا أن التطورات الدراماتيكية الخاطفة للشارع الشعبي التي حسمت مصير الرئيس في غضون أيام معدودات وبأقل تكلفة بشرية لمثل هذه الأحداث، تؤكد أن الأمر لم يكن عفوياً وإنما تدبير قائم على استثمار العفوية بدهاء سياسي ولعبة أمنية.
عادة العفوية الجماهيرية تقود إلى الانفلات الكامل، وإلى حالة ارتباك لدى الأجهزة الأمنية وتخبط يقودها إلى تعويض الحكمة والزمن الحرج بالعنف، كما حدث في جورجيا والأرجنتين والعراق بعد حرب الخليج الثانية وغيرها من الدول التي شهدت أحداثاً، ترتب عنها خسائر فادحة إلا أن ما حدث في تونس تزامن أيضاً مع تحركات منظمة لوحدات الجيش لحماية مرافق الدولة، وردع العناصر التخريبية في زمن قياسي، وهو ما يؤكد أن ثمة خططاً معدة مسبقاً جرى تنفيذها في ساعة الصفر، وأن هناك من استثمر الشرارة الأولى في إشعال المدن بالتظاهرات، وحتماً أن ذلك التدبير لم يكن من صنع شخص عادي، بل جهاز متنفذ.
ربما لم يكن أمام التونسيين إلا ذلك الخيار للتغيير بسبب غياب الديمقراطية الحقة التي تترك للمعارضين هامشاً عريضاً من الأمل لتداول السلطة عبر صناديق الاقتراع، أو على أقل تقدير المشاركة في الحكم.. لكن إلى أي مدى أصبحت بعض البلدان معرضة لتجارب مماثلة للتجربة التونسية!؟ وهل هناك ما يبرر القلق العربي؟
بتقديري أن القلق العربي مبرر جداً، لكنه يتباين في دوافعه وحسابات عواقبه.. فالدول التي لم تدخلها الديمقراطية بعد هي الأشد قلقاً من غيرها؛ لكون نظامها السياسي يماثل لما كان سائداً في تونس.. غير أن اختلاف منظومتها الاجتماعية يضعف فرص التغيير على الطريقة التونسية، نظراً لكون المجتمعات العلمانية المتحررة يلتقي أفرادها مع بعضهم البعض ثقافياً أسرع بكثير جداً من المجتمعات التقليدية المنغلقة التي غالباً ما تستند علاقاتها إلى انتماءات قبلية ومذهبية ومناطقية.
الأمر الثاني هو أن أنظمة الحكم الشمولية..عادة ما تحصر أجهزة الدولة الفاعلة والمؤسسات السيادية داخل إطار نفس أفراد الأسرة، وهو ما يجعل جميع فرص التغيير الشعبي صعبة للغاية باستثناء فرصة واحدة وهي عبر أحد أفراد الأسرة المتنفذين الطامحين لتغيير مجرى الحكم سواء على خلفية ثقافة تحررية أو مطامع سياسية.
ومثل هذا الاحتمال وارد جداً حدوثه في بعض دول الإقليم التي ظهرت فيها أجيال داخل الأسر الحاكمة متأثرة كثيراً بالفلسفات الغربية، وقد تجد تشجيعاً وإغراء من دوائر غربية لقيادة التغيير.
أما دول الديمقراطيات النامية فإن مناخ الحريات المتاحة يعد فرصة عظيمة للدفع بالجماهير إلى الشوارع تحت مختلف الشعارات، إلا أن التعدد الحزبي والثقافي، وتنوع المؤسسات الدستورية قد يضعف كثيراً من شهية الجماهير للتغيير القسري، نظراً لما يمثله من انقلاب على أدوات الديمقراطية أولاً، وثانياً لتقاطع مصالح الأحزاب، وقلق بعضها من الوقوع لاحقاً فريسة للحزب الأكبر نفوذاً في ساحة المعارضة، وثالثاً لضعف ثقة المؤسسات والنخب الفاعلة بقدرة هذه القوى على التوافق على الزعامة وعدم جر البلد إلى الفوضى، وهو رأي مستمد من تجارب سابقة في مواقف مماثلة نسبياً..
وعلى الرغم من تلك الحسابات، لكن القلق ظل قائماً لدى أنظمة هذه الدول ليس من التغيير على الطريقة التونسية وإنما من محاولة استغلال الحالة التونسية في العبث بالجماهير من خلال زجهم في ممارسات تخريبية، وفعاليات تربك الأنشطة الاقتصادية للدولة وفوضى لا يمكن أن تؤدي إلى التغيير، لكنها قد تؤثر على الاستقرار الداخلي، أو تعرض بعض الأنظمة للابتزاز السياسي والمادي، خاصة عند حدوث ذلك على قاعدة بلد ترتفع فيه معدلات الفقر والجهل، أو يواجه تحديات على صعيد سيادته الوطنية..
وفي كل الأحوال فإن الشارع العربي معروف بأنه شارع عاطفي بإفراط.. فبالأمس كان مهووساً بوثائق ويكيليكس وأسرارها ويمضي مثقفوه ساعات نهارهم بالجدل حولها، حتى جاءت أحداث تونس فنسي ويكيليكس وغرق في حديث التغيير، وغداً أي حدث صاخب سيخطفه مجدداً من شوارع التغيير..؟ فالشعوب العربية تتحرك بريموتات الفضائيات العالمية.


 

تمت طباعة الخبر في: السبت, 18-مايو-2024 الساعة: 07:46 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.alganob.net/g/showdetails.asp?id=5343